الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ولقد مننا على موسى وهارون، ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم، ونصرناهم فكانوا هم الغالبين، وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم، وتركنا عليهما في الآخرين، سلام على موسى وهارون، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنهما من عبادنا المؤمنين} قوله تعالى}ولقد مننا على موسى وهارون} لما ذكر إنجاء إسحاق من الذبح، وما من به عليه بعد النبوة، ذكر ما من به أيضا على موسى وهرون من ذلك. وقوله}من الكرب العظيم} قيل: من الرق الذي لحق بني إسرائيل. وقيل من الغرق الذي لحق فرعون. }ونصرناهم} قال الفراء: الضمير لموسى وهرون وحدهما؛ وهذا على أن الاثنين جمع؛ دليله قوله}وآتيتاهما} }وهديناهما}. وقيل: الضمير لموسى وهرون وقومهما وهذا هو الصواب؛ لأن قبله }ونجيناهما وقومهما}. و}الكتاب المستبين} التوراة؛ يقال استبان كذا أي صار بينا؛ واستبانه فلان مثل تبين الشيء بنفسه وتبينه فلان. و}الصراط المستقيم} الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام. }وتركنا عليهما في الآخرين} يريد الثناء الجميل. }سلام على موسى وهارون، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنهما من عبادنا المؤمنين} تقدم. {وإن إلياس لمن المرسلين، إذ قال لقومه ألا تتقون، أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين، الله ربكم ورب آبائكم الأولين، فكذبوه فإنهم لمحضرون، إلا عباد الله المخلصين، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إل ياسين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين} قوله تعالى}وإن إلياس لمن المرسلين} قال المفسرون: إلياس نبي من بني إسرائيل. وروي عن ابن مسعود قال: إسرائيل هو يعقوب وإلياس هو إدريس. وقرأ}وإن إدريس} وقاله عكرمة. وقال: هو في مصحف عبدالله}وإن إدريس لمن المرسلين} وانفرد بهذا القول. وقال ابن عباس: هو عم اليسع. وقال ابن إسحاق وغيره: كان القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوقنا ثم حزقيل، ثم لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل، ونسوا عهد الله وعبدوا الأوثان من دونه، فبعث الله إليهم إلياس نبيا وتبعه اليسع وآمن به، فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يريحه منهم فقيل له: اخرج يوم كذا وكذا إلى موضع كذا وكذا فما استقبلك من شيء فاركبه ولا تهبه. فخرج ومعه اليسع فقال: يا إلياس ما تأمرني. فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، وكان ذلك آخر العهد به. وقطع الله على إلياس لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش وألبسه النور، فطار مع الملائكة، فكان إنسيا ملكيا سماويا أرضيا. قال ابن قتيبة: وذلك أن الله تعالى قال لإلياس}سلني أعطك}. قال: ترفعني إليك وتؤخر عني مذاقة الموت. فصار يطير مع الملائكة. وقال بعضهم: كان قد مرض وأحس الموت فبكى، فأوحى الله إليه: لم تبك؟ حرصا على الدنيا، أو جزعا من الموت، أو خوفا من النار؟ قال: لا، ولا شيء من هذا وعزتك، إنما جزعي كيف يحمدك الحامدون بعدي ولا أحمدك! ويذكرك الذاكرون بعدي ولا أذكرك! ويصوم الصائمون بعدي ولا أصوم! ويصلي المصلون ولا أصلي!! فقيل له}يا إلياس وعزتي لأؤخرنك إلى وقت لا يذكرني فيه ذاكر}. يعني يوم القيامة. وقال عبدالعزيز بن أبي رواد: إن إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان في كل عام ببيت المقدس يوافيان الموسم في كل عام. وذكر ابن أبي الدنيا؛ إنهما يقولان عند افتراقهما عن الموسم: ما شاء الله ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله؛ ما شاء الله ما شاء الله، ما يكون من نعمة فمن الله؛ ما شاء الله ما شاء الله؛ توكلت على الله حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد مضى في }الكهف}. قال ثعلب: اختلف الناس في قوله عز وجل ها هنا }بعلا} فقالت طائفة: البعل ها هنا الصنم. وقال طائفة: البعل ها هنا ملك. وقال ابن إسحاق: امرأة كانوا يعبدونها. والأول أكثر. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس}أتدعون بعلا} قال: صنما. وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس}أتدعون بعلا} قال: ربا. النحاس: والقولان صحيحان؛ أي أتدعون صنما عملتموه ربا. يقال: هذا بعل الدار أي ربها. فالمعنى أتدعون ربا اختلقتموه، و}أتدعون} بمعنى أتسمون. حكى ذلك سيبويه. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي: البعل الرب بلغة اليمن. وسمع ابن عباس رجلا من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال: من بعل هذه؟. أي من ربها؛ ومنه سمي الزوج بعلا. قال أبو دواد: مقاتل: صنم كسره إلياس وهرب منهم. وقيل: كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام. وبه سميت مدينتهم بعلبك كما ذكرنا. }وتذرون أحسن الخالقين} أي أحسن من يقال له خالق. وقيل: المعنى أحسن الصانعين؛ لأن الناس يصنعون ولا يخلقون. }الله ربكم ورب آبائكم الأولين} بالنصب في الأسماء الثلاثة قرأ الربيع بن خيثم والحسن وابن أبي إسحاق وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وإليها يذهب أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى أبو عبيد أنها على النعت. النحاس: وهو غلط وإنما هو على البدل ولا يجوز النعت ها هنا؛ لأنه ليس بتخلية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس: وأولى مما قال - أنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف. ورأيت علي بن سليمان يذهب إلى أن الرفع أولى وأحسن؛ لأن قبله رأس آية فالاستئناف أولى. ابن الأنباري: من نصب أو رفع لم يقف على }أحسن الخالقين} على جهة التمام؛ لأن الله عز وجل مترجم عن }أحسن الخالقين} من الوجهين جميعا. قوله تعالى}فكذبوه} أخبر عن قوم إلياس أنهم كذبوه. }فإنهم لمحضرون} أي في العذاب. }إلا عباد الله المخلصين} أي من قومه فإنهم نجوا من العذاب. وقرئ }المخلصين} بكسر اللام وقد تقدم. }وتركنا عليه في الآخرين} تقدم. }سلام على إل ياسين} قراءة الأعرج وشيبة ونافع. وقرأ عكرمة وأبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي}سلام على إلياسين}. وقرأ الحسن}سلام على الياسين} بوصل الألف كأنها ياسين دخلت عليها الألف واللام التي للتعريف. والمراد إلياس عليه السلام، وعليه وقع التسليم ولكنه اسم أعجمي. والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها. قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا؛ فياسين وإلياس والياسين شيء واحد. الزمخشري: وكان حمزة إذا وصل نصب وإذا وقف رفع. وقرئ}على إلياسين} و}إدريسين وإدرسين وإدراسين} على أنها لغات في إلياس وإدريس. ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. النحاس: ومن قرأ}سلام على آل ياسين} فكأنه والله أعلم جعل اسمه إلياس وياسين ثم سلم على آله؛ أي أهل دينه ومن كان على مذهبه، وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله فهو داخل في السلام؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقال: قدني وقدي لغتان بمعنى حسب. وإنما يريد أبا خبيب عبدالله بن الزبير فجمعه على أن من كان على مذهبه داخل معه. وغير أبي عبيدة يرويه: الخبيبين على التثنية، يريد عبدالله ومصعبا. ورأيت علي بن سليمان يشرحه بأكثر من هذا؛ قال: فإن العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون: المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب. قال: فعلى هذا }سلام على إلياسين} سمي كل رجل منهم بإلياس. وقد ذكر سيبويه عي كتابه شيئا من هذا، إلا أنه ذكر أن العرب تفعل هذا على جهة النسبة؛ فيقولون: الأشعرون يريدون به النسب. المهدوي: ومن قرأ }إلياسين} فهو جمع يدل فيه إلياس فهو جمع إلياسي فحذفت ياء النسبة؛ كما حذفت ياء النسبة في جميع المكسر في نحو المهالبة في جمع مهلبي، كذلك حذفت في المسلم فقيل المهلبون. وقد حكى سيبويه: الأشعرون والنميرون يريدون الأشعريين والنميريين. السهيلي: وهذا لا يصح بل هي لغة في إلياس، ولو أراد ما قالوه لأدخل الألف واللام كما تدخل في المهالبة والأشعريين؛ فكان يقول}سلام على الإلياسين} لأن العلم إذا جمع ينكر حتى يعرف بالألف واللام؛ لا تقول: سلام على زيدين، بل على الزيدين بالألف واللام. فإلياس عليه السلام فيه ثلاث لغات. النحاس: واحتج أبو عبيد في قراءته }سلام على إلياسين} وأنه اسمه كما أن اسمه إلياس لأنه ليس في السورة سلام على }آل} لغيره من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، فكما سمي الأنبياء كذا سمي هو. وهذا الاحتجاج أصله لأبي عمرو وهو غير لازم؛ لأنا بينا قول أهل اللغة أنه إذا سلم على آله من أجله فهو سلام عليه. والقول بأن اسمه }إلياسين} يحتاج إلى دليل ورواية؛ فقد وقع في الأمر إشكال. قال الماوردي: وقرأ الحسن }سلام على ياسين} بإسقاط الألف واللام وفيه وجهان: أحدهما أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس. والثاني أنهم آل ياسين؛ فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان: أحدهما: أنها زيدت لتساوي الآي، كما قال في موضع {وإن لوطا لمن المرسلين، إذ نجيناه وأهله أجمعين، إلا عجوزا في الغابرين، ثم دمرنا الآخرين، وإنكم لتمرون عليهم مصبحين، وبالليل أفلا تعقلون} قوله تعالى}وإن لوطا لمن المرسلين، إذ نجيناه وأهله أجمعين، إلا عجوزا في الغابرين} تقدم قصة لوط. }ثم دمرنا الآخرين} أي بالعقوبة. }وإنكم لتمرون عليهم مصبحين} خاطب العرب: أي تمرون عل منازلهم وآثارهم }مصبحين} وقت الصباح }وبالليل} تمرون عليهم أيضا بالليل وتم الكلام. }أفلا تعقلون} أي تعتبرون وتتدبرون. {وإن يونس لمن المرسلين، إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} قوله تعالى}وإن يونس لمن المرسلين} يونس هو ذو النون، وهو ابن متى، وهو ابن العجوز التي نزل عليها إلياس، فاستخفى عندها من قومه ستة أشهر ويونس صبي يرضع، وكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتؤانسه، ولا تدخر عنه كرامة تقدر عليها. ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت فلحق بالجبال، ومات ابن المرأة يونس، فخرجت في أثر إلياس تطوف وراءه في الجبال حتى وجدته، فسألته أن يدعو الله لها لعله يحيى لها ولدها؛ فجاء إلياس إلى الصبي بعد أربعة عشر يوما من موته، فتوضأ وصلى ودعا الله فأحيا الله يونس بن متى بدعوة إلياس عليه السلام. وأرسل الله يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام ثم تابوا، حسبما تقدم بيانه في سورة }يونس} ومضى في }الأنبياء} قصة يونس في خروجه مغاضبا. واختلف في رسالته هل كانت قبل التقام الحوت إياه أو بعده. قال الطبري عن شهر بن حوشب: إن جبريل عليه السلام أتي يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم. قال: ألتمس دابة. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: ألتمس حذاء. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: فغضب فانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب السفينة احتبست السفينة لا تتقدم ولا تتأخر. قال: فتساهموا، قال: فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه؛ فنودي الحوت: أيا حوت! إنا لم نجعل لك يونس رزقا؛ إنما جعلناك له حرزا ومسجدا. قال: فالتقمه الحوت من ذلك المكان حتى مر به إلى الأبلة، ثم انطلق به حتى مر به على دجلة، ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى. حدثنا الحارث قال حدثنا الحسن قال حدثنا أبو هلال قال حدثنا شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت؛ واستدل هؤلاء بأن الرسول لا يخرج مغاضبا لربه، فكان ما جرى منه قبل النبوة. وقال آخرون: كان ذلك منه بعد دعائه من أرسل إليهم إلى ما أمره الله بدعائهم إليه، وتبليغه إياهم رسالة ربه، ولكنه وعدهم نزول ما كان حذرهم من بأس الله في وقت وقته لهم ففارقهم إذ لم يتوبوا ولم يراجعوا طاعة الله، فلما أظل القوم العذاب وغشيهم - كما قال الله تعالى في تنزيله - تابوا إلى الله، فرفع الله العذاب عنهم، وبلغ يونس سلامتهم وارتفاع العذاب الذي كان وعدهموه فغضب من ذلك وقال: وعدتهم وعدا فكذب وعدي. فذهب مغاضبا ربه وكره الرجوع إليهم، وقد جربوا عليه الكذب؛ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد مضى هذا في }الأنبياء} وهو الصحيح على ما يأتي عند قوله تعالى قوله تعالى}إذ أبق} قال المبرد: أصل أبق تباعد؛ ومنه غلام آبق. وقال غيره: إنما قيل ليونس أبق؛ لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل مستترا من الناس. }إلى الفلك المشحون} أي المملوءة }والفلك} يذكر ويؤنث ويكون واحدا وجمعا وقد تقدم. قال الترمذي الحكيم: سماه آبقا لأنه أبق عن العبودية، وإنما العبودية ترك الهوى وبذل النفس عند أمور الله؛ فلما لم يبذل النفس عندما اشتدت عليه العزمة من الملك حسبما تقدم بيانه في }الأنبياء}، وآثر هواه لزمه اسم الآبق، وكانت عزمة الملك في أمر الله لا في أمر نفسه، وبحظ حق الله لا بحظ نفسه؛ فتحرى يونس فلم يصب الصواب الذي عند الله فسماه آبقا ومليما. قوله تعالى}فساهم} قال المبرد: فقارع، قال: وأصله من السهام التي تجال. {فكان من المدحضين} قال: من المغلوبين. قال الفراء: دحضت حجته وأدحضها الله. وأصله من الزلق؛ قال الشاعر: أي المغلوبين. }فالتقمه الحوت وهو مليم} أي أتى بما يلام عليه. فأما الملوم فهو الذي يلام، استحق ذلك أو لم يستحق. وقيل: المليم المعيب. يقال: لام الرجل إذا عمل شيئا فصار معيبا بذلك العمل. }فلولا أنه كان من المسبحين} قال الكسائي: لم تكسر }أن} لدخول اللام؛ لأن اللام ليست لها. النحاس: والأمر كما قال؛ إنما اللام في جواب لولا. }فلولا أنه كان من المسبحين} أي من المصلين }للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} أي عقوبة له؛ أي يكون بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة. واختلف كم أقام في بطن الحوت. فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما. الضحال: عشرين يوما. عطاء: سبعة أيام. مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام. وقيل: ساعة واحدة. والله أعلم. ذكر الطبري: أن يونس عليه السلام لما ركب في السفينة أصاب أهلها عاصفة من الريح، فقالوا: هذه بخطيئة أحدكم. فقال يونس وعرف أنه هو صاحب الذنب: هذه خطيئتي فألقوني في البحر، وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم. }فساهم فكان من المدحضين} فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي. وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم الثانية فكان من المدحضين، وأنهم أبوا أن يلقوه في البحر حتى أعادوا سهامهم الثالثة فكان من المدحضين. فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل فابتلعه الحوت. وروي أنه لما ركب في السفينة تقنع ورقد فساروا غير بعيد إذ جاءتهم ريح كادت السفينة أن تغرق، فاجتمع أهل السفينة فدعوا فقالوا: أيقظوا الرجل النائم يدعوا معنا؛ فدعا الله معهم فرفع الله عنهم تلك الريح. ثم انطلق يونس إلى مكانه فرقد، فجاءت ريح كادت السفينة أن تغرق، فأيقظوه ودعوا فارتفعت الريح. قال: فبينما هم كذلك إذ رفع حوت عظيم رأسه إليهم أراد أن يبتلع السفينة، فقال لهم يونس: يا قوم هذا من أجلي فلو طرحتموني في البحر لسرتم ولذهب الريح عنكم والروع. قالوا: لا نطرحك حتى نتساهم، فمن وقعت عليه رميناه في البحر. قال: فتساهموا فوقع على يونس؛ فقال لهم: يا قوم اطرحوني فمن أجلي أوتيتم؛ فقالوا: لا نفعل حتى نتساهم مرة أخرى. ففعلوا فوقع على يونس. فقال لهم: يا قوم اطرحوني فمن أجلي أوتيتم؛ فذلك قول الله عز وجل}فساهم فكان من المدحضين} أي وقع السهم عليه؛ فانطلقوا به إلى صدر السفينة ليلقوه في البحر، فإذا الحوت فاتح فاه، ثم جاؤوا به إلى جانب السفينة، فإذا بالحوت، ثم رجعوا به إلى الجانب الآخر، فإذا بالحوت فاتح فاه؛ فلما رأى ذلك ألقى بنفسه فالتقمه الحوت؛ فأوحى الله تعالى إلى الحوت: إني لم أجعله لك رزقا ولكن جعلت بطنك له وعاء. فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة فنادى في الظلمات ففي هذا من الفقه أن القرعة كانت معمولا بها في شرع من قبلنا، وجاءت في شرعنا على ما تقدم في }آل عمران} قال ابن العربي: الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز. وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه؛ فإنه لا يجوز لمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمى به في النار أو البحر، وإنما تجرى عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته. وقد ظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم، فيطرح بعضهم تخفيفا؛ وهذا فاسد؛ فإنها لا تخف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال، ولكنهم يصبرون على قضاء الله عز وجل. أخبر الله عز وجل أن يونس كان من المسبحين، وأن تسبيحه كان سبب نجاته؛ ولذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر. قال ابن عباس}من المسبحين} من المصلين. قال قتادة: كان يصلي قبل ذلك لحفظ الله عز وجل له فنجاه. وقال الربيع بن أنس: لولا أنه كان له قبل ذلك عمل صالح }للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} قال: ومكتوب في الحكمة - إن العمل الصالح يرفع ربه إذا عثر. وقال مقاتل}من المسبحين} من المصلين المطيعين قبل المعصية. وقال وهب: من العابدين. وقال الحسن: ما كان له صلاة في بطن الحوت؛ ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء فذكره الله به في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، وإذا عثر وجد متكأ. قلت: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: قلت: والأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان، وعليه يدل حديث أبي هريرة المذكور قبل الذي ذكره الطبري. قال: فسبح في بطن الحوت. قال: فسمعت الملائكة تسبيحه؛ فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة. وتكون }كان} على هذا القول زائدة؛ أي فلولا أنه من المسبحين. {فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين، وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين} قوله تعالى}فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} روي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وقال ابن قسيط عن أبي هريرة: طرح يونس بالعراء وأنبت الله عليه يقطينة؛ فقلنا: يا أبا هريرة وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء؛ هيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض - أو هشاش الأرض - فتفشج عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرج به - يعني الحوت - حتى لفظه في ساحل البحر، فطرحه مثل الصبي المنفوس لم ينقص من خلقه شيء. وقيل: إن يونس لما ألقاه الحوت على ساحل البحر أنبت الله عليه شجرة من يقطين، وهي فيما ذكر شجرة القرع تتقطر عليه من اللبن حتى رجعت إليه قوته. ثم رجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها يبست، فحزن وبكى عليها فعوتب؛ فقيل له: أحزنت على شجرة وبكيت عليها، ولم تحزن على مائة ألف وزيادة من بني إسرائيل، من أولاد إبراهيم خليلي، أسرى في أيدي العدو، وأردت إهلاكهم جميعا. وقيل: هي شجرة التين. وقيل: شجرة الموز تغطى بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها. والأكثر على أنها شجرة اليقطين على ما يأتي. ثم إن الله تبارك وتعالى اجتباه فجعله من الصالحين. ثم أمره أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله تعالى قد تاب عليهم، فعمد إليهم حتى لقي راعيا فسأله عن قوم يونس وعن حالهم وكيف هم، فأخبره أنهم بخير، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم. فقال له: فأخبرهم أني قد لقيت يونس. قال: وماذا؟ قال: وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك لقيت يونس، قال: وماذا؟ قال وهذه الشجرة تشهد لك أنك لقيت يونس. وأنه رجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرا فقال: لا تعجلوا علي حتى أصبح، فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس، فاستنطقها فأخبرتهم أنه لقي يونس؛ واستنطق الشاة والشجرة فأخبرتاهم أنه لقي يونس، ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك. ذكر هذا الخبر وما قبله الطبري رحمه الله. }فنبذناه} طرحناه. وقيل: تركناه. }بالعراء} بالصحراء؛ قال ابن الأعرابي. الأخفش: بالفضاء. أبو عبيدة: الواسع من الأرض. الفراء: العراء المكان الخالي. قال: وقال أبو عبيدة: العراء وجه الأرض؛ وأنشد لرجل من خزاعة: وحكى الأخفش في قوله}وهو سقيم} جمع سقيم سقمى وسقامى وسقام. وقال في هذه السورة}فنبذناه بالعراء} وقال في قلت: وهو مما له ساق. الجوهري: واليقطين ما لا ساق له كشجر القرع ونحوه. الزجاج: اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان إذا أقام به فهو يفعيل. وقيل: هو اسم اعجمي. وقيل: إنما خص اليقطين بالذكر، لأنه لا ينزل عليه ذباب. وقيل: ما كان ثم يقطين فأنبته الله في الحال. القشيري: وفي الآية ما يدل على أنه كان مفروشا ليكون له ظل. الثعلبي: كانت تظله فرأى خضرتها فأعجبته، فيبست فجعل يتحزن عليها؛ فقيل له: يا يونس أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن على شجيرة، فأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة، وقد تابوا وتبت عليهم فأين رحمتي يا يونس أنا أرحم الراحمين. قوله تعالى}وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} وقد تقدم عن ابن عباس أن رسالة يونس عليه السلام إنما كانت بعد ما نبذه الحوت. وليس له طريق إلا عن شهر بن حوشب. النحاس: وأجود منه إسنادا وأصح ما حدثناه عن علي بن الحسين قال: حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا عمرو بن العنقزي قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال عن يونس النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أن يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، وخرجوا فجأروا إلى الله عز وجل واستغفروا، فكف الله عز وجل عنهم العذاب، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم ير شيئا - وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل - فخرج يونس مغاضبا، فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه، فلما دخل السفينة ركدت السفينة والسفن تسير يمينا وشمالا؛ فقالوا: ما لسفينتكم؟ فقالوا: لا ندري. فقال يونس عليه السلام: إن فيها عبدا آبقا من ربه جل وعز وإنها لن تسير حتى تلقوه. قالوا أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك. قال: فأقرعوا فمن قرع فليقع، فاقترعوا فقرعهم يونس فأبوا أن يدعوه، فال: فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع. فاقترعوا فقرعهم يونس ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله به جل وعز حوتا فابتلعه وهو يهوي به إلى قرار الأرض، فسمع يونس عليه السلام تسبيح الحصى وهذا هو الصحيح في الباب، وأنه لم يكن حكم الله عز وجل فيهم كحكمه في غيرهم في قول عز وجل قوله تعالى}أو يزيدون} قد مضى في }البقرة} محامل }أو} في قوله تعالى أي ورزاما. وهذا كقوله تعالى {فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون، أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون، ألا إنهم من إفكهم ليقولون، ولد الله وإنهم لكاذبون، أصطفى البنات على البنين، ما لكم كيف تحكمون، أفلا تذكرون، أم لكم سلطان مبين، فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} قوله تعالى}فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون} لما ذكر أخبار الماضين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم احتج على كفار قريش في قولهم: إن الملائكة بنات الله؛ فقال}فاستفتهم}. وهو معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت بينهم المسافة؛ أي فسل يا محمد أهل مكة }ألربك البنات} وذلك أن جهينة وخزاعة وبني مليح وبنى سلمة وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله. وهذا سؤال توبيخ. }أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون} أي حاضرون لخلقنا إياهم إناثا؛ وهذا كما قال الله عز وجل على معنى التقريع والتوبيخ كأنه قال: ويحكم }أصطفى البنات} أي اختار البنات وترك البنين. وقراءة العامة }أصطفى} بقطع الألف؛ لأنها ألف استفهام دخلت على ألف الوصل، فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوح مقطوعة على حالها مثل}أطلع الغيب} على ما تقدم. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وحمزة }اصطفى} بوصل الألف على الخبر بغير استفهام. وإذا ابتدأ كسر الهمزة. وزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها؛ لأن بعدها }ما لكم كيف تحكمون} فالكلام جار على التوبيخ من جهتين: إحداهما أن يكون تبيينا وتفسير لما قالوه من الكذب ويكون }ما لكم كيف تحكمون} منقطعا مما قبله. والجهة الثانية أنه قد حكى النحويون - منهم الفراء - أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما قال جل وعز {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون، سبحان الله عما يصفون، إلا عباد الله المخلصين} قوله تعالى}وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} أكثر أهل التفسير أن الجنة ها هنا الملائكة. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالوا - يعني كفار قريش - الملائكة بنات الله؛ جل وتعالى. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فمن أمهاتهن. قالوا: مخدرات الجن. وقال أهل الاشتقاق: قيل لهم جنة لأنهم لا يرون. وقال مجاهد: إنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة. وروي عن ابن عباس. وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال: إنما قيل لهم جنة لأنهم خزان على الجنان والملائكة كلهم جنة. }نسبا} مصاهرة. فال قتادة والكلبي ومقاتل: قالت اليهود لعنهم الله إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم. وقال مجاهد والسدي ومقاتل أيضا. القائل ذلك كنانة وخزاعة؛ قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن. وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه. قلت: قول الحسن في هذا أحسن؛ دليله قوله تعالى قوله تعالى}ولقد علمت الجنة} أي الملائكة }إنهم} يعني قائل هذا القول }لمحضرون} في النار؛ قال قتادة. وقال مجاهد: للحساب. الثعلبي: الأول أولى؛ لأن الإحضار تكرر في هذه السورة ولم يرد الله به غير العذاب. }سبحان الله عما يصفون} أي تنزيها لله عما يصفون. }إلا عباد الله المخلصين} فإنهم ناجون من النار. {فإنكم وما تعبدون، ما أنتم عليه بفاتنين، إلا من هو صال الجحيم} قوله تعالى}فإنكم وما تعبدون} }ما} بمعنى الذي. وقيل: بمعنى المصدر، أي فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام. وقيل: أي فإنكم مع ما تعبدون من دون الله؛ يقال: جاء فلان وفلان. وجاء فلان مع فلان. }ما أنتم عليه} أي على الله بمضلين. النحاس. أهل التفسير مجمعون فيما علمت على أن المعنى: ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدّر الله عز وجل عليه أن يضل: أي مضلا. في هذه الآية رد على القدرية. قال عمرو بن ذر: قدمنا على عمر بن عبدالعزيز فذكر عنده القدر، فقال عمر: لو أراد الله ألا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما في كتاب الله عز وجل، عرفه من عرفه، وجهله من جهله؛ ثم قرأ}فإنكم وما تعبدون. ما أنتم عليه بفاتنين} إلا من كتب الله عز وجل عليه أن يصلى الجحيم. وقال: فصلت هذه الآية بين الناس، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي، ولو علم الله جل وعز أنه يهتدي لحال بينه وبينهم؛ وعلى هذا قوله تعالى أحمد الله فلا ند له بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل، وأهل نجد يقولون أفتنته. روي عن الحسن أنه قرأ}إلا من وصال الجحيم} بضم اللام. النحاس: وجماعة أهل التفسير يقولون إنه لحن؛ لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة. ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت علي بن سليمان يقول؛ قال: هو محمول عل المعنى؛ لأن معنى. }من} جماعة؛ فالتقدير صالون، فحذفت النون للإضافة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. وقيل: أصله فاعل إلا أنه قلب من صال إلى صايل وحذفت الياء وبقيت اللام مضمومة فهو مثل {وما منا إلا له مقام معلوم، وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون} هذا من قول الملائكة تعظيما لله عز وجل، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم. }وإنا لنحن الصافون. وإنا لنحن المسبحون} قال مقاتل: هذه الثلاث الآيات نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى، فتأخر جبريل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهنا تفارقني) فقال ما استطيع أن أتقدم عن مكاني. وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة}وما منا إلا له مقام معلوم} الآيات. والتقدير عند الكوفيين: وما منا إلا من له مقام معلوم. فحذف الموصول. وتقديره عند البصريين: وما منا ملك إلا له مقام معلوم؛ أي مكان معلوم في العبادة؛ قال ابن مسعود وابن جبير. وقال ابن عباس: ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي سبح. قلت: والأظهر أن ذلك راجع إلى قول الملائكة}وما منا إلا له مقام معلوم} والله أعلم. {وإن كانوا ليقولون، لو أن عندنا ذكرا من الأولين، لكنا عباد الله المخلصين، فكفروا به فسوف يعلمون} عاد إلى الإخبار عن قول المشركين، أي كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إذا عيروا بالجهل قالوا}لو أن عندنا ذكرا من الأولين} أي لو بعث إلينا نبي ببيان الشرائع لاتبعناه. ولما خففت }إن} دخلت على الفعل ولزمتها اللام فرقا بين النفي والإيجاب. والكوفيون يقولون}إن} بمعنى ما واللام بمعنى إلا. وقيل: معنى }لو أن عندنا ذكرا} أي كتابا من كتب الأنبياء. }لكنا عباد الله المخلصين} أي لو جاءنا ذكر كما جاء الأولين لأخلصنا العبادة لله. }فكفروا به} أي بالذكر. والفراء يقدره على حذف، أي فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر فكفروا به. وهذا تعجيب منهم، أي فقد جاءهم نبي وأنزل عليهم كتاب فيه بيان ما يحتاجون إليه فكفروا وما وفوا بما قالوا. }فسوف يعلمون} قال الزجاج: يعلمون مغبة كفرهم. {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون، فتول عنهم حتى حين، وأبصرهم فسوف يبصرون، أفبعذابنا يستعجلون، فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين، وتول عنهم حتى حين، وأبصر فسوف يبصرون} قوله تعالى}ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} قال الفراء: أي بالسعادة. وقيل: أراد بالكلمة قوله عز وجل قوله تعالى}فتول عنهم} أي أعرض عنهم. }حتى حين} قال قتادة: إلى الموت. وقال الزجاج: إلى الوقت الذي أمهلوا إليه. وقال ابن عباس: يعني القتل ببدر. وقيل: يعني فتح مكة. وقيل: الآية منسوخة بآية السيف. }وأبصرهم فسوف يبصرون} قال قتادة: سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار. وعسى من الله للوجوب وعبر بالإبصار عن تقريب الأمر؛ أي عن قريب يبصرون. وقيل: المعنى فسوف يبصرون العذاب يوم القيامة. }أفبعذابنا يستعجلون} كانوا يقولون من فرط تكذيبهم متى هذا العذاب؛ أي لا تستعجلوه فإنه واقع بكم. قوله تعالى}فإذا نزل بساحتهم} أي العذاب. قال الزجاج: وكان عذاب هؤلاء بالقتل. ومعنى }بساحتهم} أي بدارهم؛ عن السدي وغيره. والساحة والسحسة في اللغة فناء الدار الواسع. الفراء}نزل بساحته} ونزل بهم سواء. }فساء صباح المنذرين} أي بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب. وفيه إضمار أي فساء الصباح صباحهم. وخص الصباح بالذكر؛ لأن العذاب كان يأتيهم فيه. ومنه الحديث الذي {سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين} قوله تعالى}سبحان ربك} نزه سبحانه نفسه عما أضاف إليه المشركون. }رب العزة} على البدل. ويجوز النصب على المدح، والرفع بمعنى هو رب العزة. }عما يصفون} أي من الصاحبة والولد. سئل محمد بن سحنون عن معنى }رب العزة} لم جاز ذلك والعزة من صفات الذات، ولا يقال رب القدرة ونحوها من صفات ذاته جل وعز؟ فقال: العزة تكون صفة ذات وصفة فعل، فصفة الذات نحو قوله}فلله العزة جميعا} وصفه الفعل نحو قوله}رب العزة} والمعنى رب العزة التي يتعاز بها الخلق فيما بينهم فهي من خلق الله عز وجل. قال: وقد جاء في التفسير إن العزة ها هنا يراد بها الملائكة. قال: وقال بعض علمائنا: من حلف بعزة الله فإن أراد عزته التي هي صفته فحنث فعليه الكفارة، وإن أراد التي جعلها الله بين عباده فلا كفارة عليه. الماوردي}رب العزة} يحتمل وجهين: أحدهما مالك العزة، والثاني رب كل شيء متعزز من ملك أو متجبر. قلت: وعلى الوجهين فلا كفارة إذا نواها الحالف. قلت: قرأت على الشيخ الإمام المحدث الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن عمروك البكري بالجزيرة قبالة المنصورة من الديار المصرية، قال أخبرتنا الحرة أم المؤيد زينب بنت عبدالرحمن بن الحسن الشعري بنيسابور في المرة الأولى، أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن أبي بكر القارئ، قال حدثنا أبو الحسن عبدالقادر بن محمد الفارسي، قال حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد الإسفرايني، قال حدثنا أبو سليمان داود بن الحسين البيهقي، قال حدثنا أبو زكرياء يحيى بن يحيى بن عبدالرحمن التميمي النيسابوري، قال حدثنا هشيم عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف }سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين}. قال الماوردي: قوله تعالى}وسلام على المرسلين} ي الذين بلغوا عن الله تعالى التوحيد والرسالة. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: والكل مراد والحمد يعم. ومعنى }يصفون} يكذبون، والتقدير عما يصفون من الكذب.
|